منهج سماحته في التدريس

لقاءات حوارية أجراها الدكتور زياد محمد حميدان مع سماحته/ مقتطفة من كتاب "العلامة الرباني الشيخ رجب ديب، نبراس دعوة ومنار هداية"/ بتصرّف.

 
التدريس أحد مجالات الدعوة التي يقوم بها سماحته، فـقد بدأ الدعوة بالتدريس، وقد مر معنا كيف كان منذ نشأته( 17-18 سنة ) يجمع التلاميذ والعمال ويدرّسهم ما حفظ من دروس الشيوخ، وبما فتح الله تعالى عليه، فالعلم يزكو بالإنفاق، ولا بد لمن يتعلم أن يعلِّم إذ لا يجوز كتمان العلم.
لقد كان فضيلة الشيخ رجب ـ حفظه الله ـ يتعلّمُ ويعملُ ويعلِّم.
ولقد كان لفضيلته في التدريس مسلكان:
المسلك الأول:المجالس العامة، ويحضرها الآلاف من الناس، من كافة الفئات، يجتمعون من كل النواحي حتى يغص بهم أكبر المساجد مثل جامع أبي النور وجامع (تـنكز)، يتوافدون ليملؤوا قلوبهم بالحب والإيمان، وعقولهم بالعلم والحكمة، ويصدرُ كل منهم وقد نال بُغيتَه.
والمجالس العامة تكون في تـفسير القرآن الكريم، بالأسلوب الذي يعالج قضايا المجتمع بكل ما يستجد فيه من أحداث، فالشيخ يعيش مع الناس همومهم ومشاكلهم. ولذا كان تـفسيره التـفسير الحي، يجد فيه كل من يحضر المجلس حلاً لمشكلته الخاصة، وتـنويراً له في سلوك الحياة وكيفية التعامل بما يحقق سعادته في الحياة في أخلاقه وتعامله متـفقاً مع سماحة الإسلام وكأنه المخاطب الوحيد.
 وفضيلته يتـناول دقائق الحياة وأساليب المعيشة التي يحياها المجتمع، فينبه الغافل إلى ما يمكن أن يقع فيه، ويُخلِّصُ من زلَّ وينير له طريق الصواب، ويؤيد المستـقيم ويدعوه إلى الكمال.

المسلك الثاني: المجالس الخاصة مع طلاب العلم والمعرفة، يشرح لهم كتب العلم النافع، ولعل أجلّ الكتب التي نالت عنايةً وجهداً خاصاً منه صحيح الإمام البخاري، وكان يشرحه في دروس الفجر، واستمر شرحُه تسعة عشر عاماً، وهو شرح عزيز جمع دقائق العلم ونفائسه، والفوائد المتعلـقة بكل حديث مدعَّماً بتجاربه الحكيمة، ورَبَطَهُ بالواقع، وحبذا لو وجد من الباحثين من يقوم بجمعه ونشره لتعمَّ به الفائدة، وكذلك كتب الحديث الأخرى، مثل الترغيب والترهيب والتاج الجامع للأصول.

نشاطه التدريسي
بدأ فضيلته نشاطه التدريسي في سن مبكرة ولعدة مواد، فإذا شئنا أن ننظر إلى اجتهاده وتـفوقه في دراسته الابتدائية الليلية لنيل الشهادة الابتدائية؛ لوجدنا أن ذلك كان دافعاً لبعض أساتذته أن ينيبه عنه في التدريس لمادتي الأخلاق والجغرافيا، لكنه شدّ اهتمامَ المدرسين والإدارة إذ لاحظوا انضباط الصف بشكل غير معهود لدى كثير من الأساتذة، وتبين لهم أنه يمتاز بشخصية جاذبة، وبديهة حاضرة، ومادة عِلمية غزيرة، وروحٍ نقية تخرق القلوب قبل أن تخرق الأسماع.
يمكننا أن نعتبر هذا النشاط التدريسي الأول في حياة فضيلته.
أما النشاط الثاني فكان في أوائل الستينات حيث افتـتح سماحة الشيخ أحمد كفتاروـ ولم يكن قد استلم الإفتاء بعد ـ معهد بدر الإعدادي؛ في منطقة (البحصة)، وكلّف فضيلة الشيخ رجب أن يدرس في المعهد مادتي الفقه والتجويد، وكان يدرِّس بزيِّه الديني، ذلك الزيّ الذي كاد أن يفـقد هيبته واحترامه من نفوس الطلاب، لكنه أثبت لذلك الزي الاحترام اللائق، والهـيبة المفروضة، ناهيك عن إيصال المعلومة إلى نفوس الطلاب بأسلوب سلس وجذاب، وإن بعض الذين تـتلمذوا عليه في الستينات في معهد بدر سعوا إلى مجالسه في المساجد، ولا يزالون ملتزمين معه حتى الآن التزامَ المريد بالشيخ.
ولما افتـتح المعهد الشرعي للدعوة والإرشاد بقسميه (الذكور والإناث) تعيّن فضيلته ـ وبإيعاز من سماحة شيخه ـ مدرساً في المعهد الشرعي ردحاً جيداً من أواسط السبعينات؛ ليدرّس الذكور مواد الفقه والأصول والفرائض، وخاصة للمرحلة الثانوية. يقول طلابه يومئذ ومريدوه اليوم: لقد كانت مادة الفقه من أحب المواد الشرعية لنا، لأن فضيلة الشيخ رجب كان يقدمها لنا مائدة شهية لذيذة، سريعة الوصول إلى الأفهام، شديدة الثبات في الأذهان.
وهذا يعتبر النشاط التدريسي الثالث في حياة فضيلته.
وأما النشاط التدريسي الرابع لفضيلته فهو تدريسه في كليتي الدعوة الإسلامية وأصول الدين، فقد درّس في كلية الدعوة مادة الدعوة والدعاة، برع فيها براعة استـقطبت طلاب جميع السنوات، إذ كان معظمهم يتركون محاضراتهم لحضور محاضرة الدعوة الإسلامية لفضيلته، والوقوف منهم أكثر من الجالسين بكثير، وهذا ليس بِدْعاً من إنسان أفنى حياتَه في الدعوة إلى الله تعالى، فهو لا يعرفها نظرياً من صفحات الكتب بقدر ما أدرك أسرارها بسلوكه وعمله وتطبيقه وروحه وقلبه، ولذا كان شديد التأثير في طلابه الذين غدا بعضهم اليوم من العلماء الأعلام والدعاة المنتِجين. ثم أسند إليه تدريس مادة القرآن الكريم إقراءً وحفظاً.
ثم أسنِد إليه في كلية الأصول تدريس مادة التصوف الإسلامي؛ تربيةً و تزكيةً وحكمة قرآنيةً، يدرسها للذكور والإناث، وهو الصوفي الحقّ الذي نهل نُسُغَ التصوف من قلب شيخه وروحه الذي جدّدَ في الفكر الصوفي حسب النهج القرآني والمسلك النبويّ الرشيد، نافياً عنه كل الشوائب والدخائل.
ولا أنسى أن أشير إلى أن من أوائل المحاضرات التلفزيونية التي عرضها التلفزيون السوري في أوائل الستينات محاضرة في التصوف ألـقاها فضيلته؛ نالت استحسان الجميع.

س: ما المساجد التي درستم فيها؟
لعلكم لو سألتم مساجد دمشق وغوطتيها لأُجِبتم بأنه قلّ أن يوجد مسجد لم أدرّس فيه، بدءاً من جامع (يلبغا) الكبير إلى جامع (تـنكز) فالمغربية، فالحاجبية والزهراء و الصلخدية والشيخ محي الدين وسعيد باشا، وغيرها كثير، كمسجد بني أمية الكبير؛ فقد درّستُ فيه ثلاث سنين متوالية في رمضان، وهناك في الـقرى من جوبر إلى حرستا وكفربطنا وغيرها من القرى؛ شرق دمشق وغربها وجنوبها، وذلك بفضل الله وإحسانه عليَّ.

س: هل هناك برنامج خاص موزع على أيام الأسبوع؟
برامجي في التدريس كثيرة، وحسب الأماكن التي أدرّس فيها، فمثلاً:في المسجد الذي أنا فيه (المغربية) ـ الجسر الأبيض ـأقيم فجر كل يوم درساً في الحديث، قرأت فيه الترغيب والترهيب وكتاب التاج الجامع للأصول والجامع الصغير للسيوطي، ثم جمعت الأحباب على شرح صحيح البخاري الذي امتد شرحه تسع عشرة سنة، وغيرها كثير، عدا عن تدريس الفقه الحنفي والشافعي، والفرائض والتجويد والتوحيد والأصول، وكان هناك برنامج خاص بجلسة أسبوعية للنساء، ومن ضمن البرنامج اليومي أني أعقِدُ كل يوم بين خمسة دروس أو ستة من غير انقطاع، عدا المجالس العامة، واستـقر الحال الآن على المجالس العامة على النحو التالي:
فجر الجمعة:في جامع الحاجبية، مجلس في الحديث النبوي الشريف.
مساء الاثنين:في جامع الحاجبية.
مساء الثلاثاء:في جامع (تنكز).
مساء الخميس:في جامع أبي النور.
قبيل ظهر الجمعة ( قبل أذان الظهر): في جامع أبي النور.والأربعة الأخيرة كلها في تـفسير القرآن الكريم.
وخصصت يوم السبت لأخوات بيروت والمسافرات من الأقطار والمحافظات.
وخصصت يوم الأحد لشباب بيروت والوافدين المسافرين من الأقطار والمحافظات.
وخصصت في كل يوم ساعتين لقضاء حوائج الأحباب، والإجابة على أسئلتهم، من الساعة الحادية عشرة إلى الواحدة ظهراً. وهذا البرنامج ثابت منذ أكثر من عشرين سنةً ـ بفضل الله تعالى ـ.

س: ما مصادركم في تحضير الدروس؟
هذا أمر يصعب حصره الآن؛ لأني أراجع أمهات كتب التـفسير؛ مثل الطبري والبحر المحيط والرازي والزمخشري وابن كثير وروح البيان والـقرطبي وغيرها، وأما الأحاديث فالمراجع الصحاح والسنن الستُّ أولاً، ثم جامع السيوطي والمسند للإمام أحمد والإمام الطبراني بكتبه الثلاث، ومجمع الزوائد والحلية لأبي نعيم، وابن حبان والبزار، وغيرهم.وأرجع في الأحكام الشرعية إلى كتاب السرخسي وحاشية ابن عابدين في الفقه الحنفي، وإلى أمهات الكتب عند الشافعية كالأم والباجوري وغيرها، وإلى أمهات الكتب في الفقه الحنبلي والمالكي والجعفري، وإلى كتب الآداب والأخلاق وحياة الصحابة للـقصص والآثار، وهناك مكتبة عامرة بكتب الطب والفلك والعلوم العصرية كالفيزياء والكيمياء والزراعة والطيران والاقتصاد والاجتماع وغيرها.

س: ما مصادر التشويق التي تجذب الناس في دروسكم؟
أهم مصادر التـشويق في مجالسي تذكير الخلق بحب الله، وبحث نِعم الله على العبد من كل أطرافها، وحب رسول الله صلى اللهعليه وسلم بذكر سنته، وطرفاً من سيرته الشريفة بما يتـناسب مع البحث والحديث، وأميل إلى قصص الصحابة رضوان الله عليهم في اجتماعهم مع بعضهم، وفي صحبتهم لرسول الله صلى اللهعليه وسلم وإذا استـقيت قصة فيها عظة وعبرة ألـقيتها، وإذا كان هناك فكاهة تحمل عبرةً ذكرتها، عندما أرى بعض الوجوه أصابها بعض الملل فأذكر طرفةً لتصحو النفوس وتـتـنبه، فعندها ألقي العبرة من الطرفة فأحيي بها اليقظة النفسية لتـتـلقى العلم بشغف وعشق. ولا يخلو البحث من ترغيب بفضل الله ورحمته، والطمع بسعة عفوه ومغفرته، والترغيب لمن عصى وأذنب عمداً، وهو يعرف عذاب الله ونقمته، متبعاً بذلك أسلوب القرآن الكريم، حيث يكون في ترهيبه إذا بك تستـنشق الترغيب فيه، لتصحو النفوس وتـتـنبه وتـشحذ الروح بقوة الرجاء.

س: ما الفرق بين درس الرجال ودرس النساء من حيث التحضير والإلقاء والاستجابة؟
ليس هناك فرق بين درس الرجال ودرس النساء في التحضير لأن العمل المقصود به الله وحده، وهو أمانة إلهية في عنقي وواجب شرعي وجب عليَّ، فمجلس الرجال يجمع كل شرائح المجتمع من عامل إلى طبيب، ومهندس ومسؤول، فالمفروض أن أعطي كل واحد حسب استعداده ومعرفته ومكانته، فأهيئ البحث معتمداً على الله، وإذا جلست للتدريس تبرأت من حولي وقوتي ومطالعتي، والتجأتُ إلى حول الله وقوته وعلمه، متذللاً بين يديه أن يغذي قلوب العباد بما يفتح عليَّ من جوده.

وأما مجلس النساء فهو مجلس يأخذ مني الكثير من الجهد والتعب لكون الكلام مع النساء يجب أن يكون محاطاً بهالة من الهـيبة والجلال، من غير نكات ولا مرح بل كله مواعظ وعبر، مذكِّراً النساء بحقوق الله عليهن، وحقوق أزواجهن وأولادهن وبيوتهن، شارحاً كلاً من الحقوق على حدة، حتى تعود المرأة إلى بيتها وليس أغلى عليها من أداء الحق لزوجها، لتـنال رضاء الله برضاه، ثم لا أنسى أن في المجلس الأم الغيورة، والأخت المتكبرة والبنت المدللة والزوجة المستأثرة والكَـنّة المقصرة.
فأرى من واجبي الشرعي أن أخففَ من غيرة الأم على ولدها، وأبلِغَها كيف تعامل زوجة ابنها بالتكريم والحنان، وكذلك كيف تكون الزوجة مع أم زوجها بالتـقدير والاحترام وهكذا الأخت والبنت والكَـنّة لأجعل من بيت المسلم جنة ترفل بالرفاهية والسعادة التي تخيّم عليهم، مع توجيه العازبات إلى خشية الله ومراقبته والتوبة إلى الله والإنابة إليه مما حدا ـ بفضل الله ـ بالكثيرات إلى ترك ما كنَّ عليه من التـفلُّت والعودة إلى دين الله ومراقبته.

س: هل لكم أسلوب خاص في تدريس النساء؟
أسلوب تعليم النساء يقوم على الترغيب والترهيب، وشحذ الهمة للعمل في الإسلام وحفظ القرآن والحديث الشريف، ولقد حفظ القرآن الكريم قريب من مائة فتاة مع التجويد وقدمتُ لهنّ شهادة في تعليم القرآن وإقرائه، ومنهن من حفظتْ مع القرآن ثلاثين ألف حديث عن رسول الله صلى اللهعليه وسلم، والعمل في الحقل النسائي أوسع انتـشاراً منه في حقل الرجال.

س: ما الأثر الروحي للدرس،
أو كيف يتعامل الشيخ روحياً مع حاضري الدرس؟
إن الأمور الروحية يعجز الـقلم عن كتابتها، لكن لا بد من إبداء بعض التعابير، فمَـثَـلُ الروح كمثل الشمس تسطع على الدنيا، وكل من الناس يأخذ منها على قدر، فروح المربي هي الروح التي استمدت نورَها من اسم الله العظيم، وارتبط صفاؤها بروح رسول الله الكريم، فكان له إمدادان: مدد من نور الله، ومدد من روح رسول الله، فهو بتلك الروح يتوجه إلى قلوب الخلق بمرآته المتوجهة إلى نور الله وروح رسول الله ،فيعكس أنوارَها في قلوبهم لذلك تجدهم يشعرون بلذة المجالسة وأنْسِ المحادثة.

س: ما السر أن معظم تلاميذكم من الشباب، وإلى أي شيء ترجعون محبة تلاميذكم لكم وتفانيهم في خدمتكم وطلب رضاكم؟
السر في ذلك أني أخاطب الشباب بلغتهم، وأشعر بأحوالهم، وأستـقرئ نفوسَهم فأخاطبهم بما تـنطوي عليه نفوسهم، ثم أوجههم إلى ما فيه سعادتهم وصلاحهم، وأشعرهم بحناني وعطفي عليهم، وإن كثيراً منهم من يتيقن أن رحمة الشيخ به أعظم من رحمة والدته عليه، وأن حنان الشيخ عليه أكبر من حنان أبيه، لأنه على يقينٍ أني أريد إنقاذ هذا الشاب من عذاب الله وسخطه في الآخرة، ومن الفقر والحاجة والأمراض في الدنيا، لذلك أبذل لكل شاب من وقتي ومالي وحناني وعلمي ما ينـقذه إلى المحجة البيضاء والشريعة السمحاء، وأجعله محبوباً لدى الخلق مقبولاً لدى الخالق، هذا مع أني لم أنس إكرام الشيوخ وتوقيري لهم واحترامي، ولم أرض في مجلس أن يجلس رجل مسن خلف شاب، بل آمر الشباب أن يحترموا المسنين، ويوقروهم ويفضلوهم على أنفسهم في المجالس المريحة لهم، لذلك أجد الجميع يقابلونني بمثـل ذلك التـقدير والاحترام، ويقدمون الخدمة التي يستطيعون الـقيام بها، تـقرباً إلى معلمهم وأداء حق العلم، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.