آراء سماحة الشيخ في التصوف

 

لقاءات حوارية أجراها الدكتور زياد محمد حميدان مع سماحته/ مقتطفة من كتاب "العلامة الرباني الشيخ رجب ديب، نبراس دعوة ومنار هداية"/ بتصرّف.
 
لا يزال مصطلحُ التصوف يثير جدلاً واسعاً في أوساط الناس، وذلك لِما دخلَ على هذا المصطلح من انحراف في السلوك والعقيدة.
نجد عامة الناس ينفرون من التصوف، لما يجدون من انحراف في سلوك مُدَّعيه، كأولئك الذين يقيمون حِلَقَ الذكر الجهرية بشكل لا يتـفق مع حقيقة الشرع الحنيف وربما تكون حِلَقُ الذكر كما نقل عن بعض الجماعات في بعض البلدان مختـلطة ومخالفة لتعاليم الإسلام الظاهرة، وعدم الالتزام بالشعائر الإسلامية في سلوكهم ومعاملاتهم وكثرة ادعائهم الكرامات التي يضيق ذهن العامي في التوفيق بين السلوك المخالف للشرع وهذه الادعاءات.

وحورب التصوف كذلك من قبل العلماء لمخالفات في أمور العقيدة، وذلك لتعلق هؤلاء المدّعين بالأولياء والصالحين وخاصة الذين توفاهم الله، يطلبون منهم قضاء الحوائج والتصرف في الأحوال الحياتية ولذا أطلِقَ عليهم عُبّاد الـقبو.
 وهنا بعض ماورد في الحوار مع سماحته:
س: ما التصوف، وهل هو أمر زائد على أمور الدين؟
أقول: إن هذا الاسم قد أورث في الناس اختلافاً وألـقى بين بعض الناس عداوةً، حيث افترقوا على قسمين: سلفي وصوفي، وكان الأوْلى أن نجد حلاً وسطاً نؤلفُ فيه بين الـقلوب ونجمعُ الأمةَ على صراطٍ واحدٍ، ولا يكون هذا إلا بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله.
 وإن القرآن العظيم هو الذي يحل لنا مشاكلنا، ويضعنا على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها.
ولو أصغينا السمع لكتاب الله لسمعنا أنه بيّن لنا صفتين لكلمة التصوف: الإحسان وهو (أن تعبد الله كأنك تراه)، والتزكية التي هي تطهير النفس من أهوائها ورعونتها، وتصفيتها من حب الشهوات، وملء أوقاتها بالتوجه إلى الله، لذلك أقول: إن التـزكية المطلوبة هي تصفية النفس من ميولها وتـنقيتها من رذائلها، وتطهيرها من متعلقاتها الدنيئة وتـقديسها بصدق الإقبال على الله، وإخلاص العمل لله، ومراقبة العبد في سره وجهره، وأن الله معه على كل حال يراه ويسمعه ويعلم خفايا نفسه، فعندها يستـقيم على شريعته ويحافظ على نقائه فيجتـنب النقائص ويبتعد عن الرذائل ويتحلى بالفضائل، فيكمل بارتـقائه ويسعد بإيمانه، وينفذ أوامر ربه ويجتـنب مخالفاته، وهذا هو الإسلام الحق، لذلك فإن التـزكية هي أمر من صلب الإسلام وليست زائدة عنه، بل لا يتم إيمان العبد دونها فهي الموصلة إلى مقام الإحسان.( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).(آل عمران: 134)
س: ما سبب تـشويه صورة التصوف حتى حورب واعتبرَ بدعة؟
الذي سبّبَ تـشويهَ التـزكية المسماة بالتصوف هو أن لكل صنعة وعمل خبراء ومنتـسبين ومدّعين، فأما الخبراء فيؤخذ منهم الكمال في أعمالهم وأقوالهم، وأما المنتسبون فهم الذين يظهر منهم بعض الأخطاء وينسبونها للخبراء جهلاً، فيفسدون بعض الإفساد وأما المدّعون فهم الخطر الأكبر على كل عمل ومصلحة، فهم يَظهَرون بالنقص ويدّعون أنه الكمال، ويعملون المخالفات ويدّعون أنها الطاعات، حملهم على ذلك حبّ الظهورِ واكتسابُ الشهرة والمال، وذلك مع الجهل بشرع الله ودينه، فمن رآهم أو جالسهم كفرَ برسالة الدين وأعرض عنه، ونسبَ إليه البدعة ظلماً، لذلك أجمع أولياء الله رضي الله عنهم أنه من ادّعى سلوك طريق الآخرة أو الأنس بالله، وهو جاهل بشرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو شيطان لا يؤخذ منه شيء، بل يُرَدُّ عليه كل شيء. ولقد دخل التـشويه على كل شيء، فلـقد دخل في التـفسير الإسرائيلياتُ، ودخل في الأحاديث الموضوعاتُ، ودخل في الأصول الجمودُ، ودخل في الفقه المسائلُ الخيالية التي لا تـليق به، ودخل في الوعظ التساهلُ في الفضائل، وكذلك دخل في التـزكية المدّعون للأحوال والأنوار كالباطنية الذين شوّهوا جمال الإيمان ومقام الإحسان، ولذلك لا يجوز لنا أن نأخذ الكمالَ من أهل النقص، ولا أن ننسب النقصَ لأهل الكمال.
س: ما معنى الطريق، وما سنده الشرعي؟
كلمة الطريق التي اصطلح عليها الشيوخ، هي الطريق المستـقيم الموصل إلى الله من طريق الروح حباً وشوقاً و خوفاً ومهابةً وكمالاً واستـقامةً، وذلك بمواصلة ذكر الله ومراقبته ودوام خشية الله ومراقبة عظمته، ليدوم الحضور مع الله روحاً، فيحجب بذلك عن الرذائل والشهوات والنقائص ويدرك بها: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور:37).  وهي الطريق المستـقيم باتباع شرع الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عملاً وخلقاً ومعاملةً، وهي تـقوى الله في كل حركاته و سكناته وأعماله و لفتاته، فإذا اجتمع للإنسان المؤمن دوام مخافة الله مع ملازمة محبته المقيّـدة بشرع الله والمرتبطة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أدرك نور الخشية مع نور الشريعة. (نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) (النور:35).
وإننا لنجدُ في القرآن الكريم والسنة المطهرة أدلةً على ذلك فمنها قوله تعالى: ( وَاتَّـقُواْ اللّهَ وَيُعَـلِّمُكُمُ اللّه) (البقرة:282) وقوله تعالى : (
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:9_10) وقوله تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (الأعلى:14-15) وفي الحديث الشريف:"اتـقِ اللهَ حيثما كنتَ ، وأتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالقِ الناسَ بخلقٍ حَسَن".
س: هل حافظتم على أسس الطريق، وهل يمكن التجديد في الطريق؟
المحافظة على أسس الطريق هي المحافظة على شرع الله من كتاب وسنة، والعملُ بهما والتخلّقُ بأخلاقهما، ونشدّد التـشديد الكلي على صدق اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال والأحوال، وأن يكونَ أسوتَـنا في كل أمور حياتِـنا ليكون السالكُ نسخةً طبق الأصلِ عن السنة المطهرة. ولا بد لذلك من التجديد بين كل حين وآخر، عملاً بالحديث الشريف: "إن الله يبعثُ لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينَها".
 وقال صلى الله عليه وسلم:"يرث العلمَ من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين". وأفضل تجديد للطرق الرجوع بنا إلى كتاب الله وسنة رسوله، لنعود ونستـقي من النبع الصافي الشراب النقي الذي نحافظ به على إيماننا وإسلامنا الصحيح.

س: ما أساس طريقتكم، وما سندها الشرعي؟
بيّـنتُ لكم أن أساسَ طريقتِـنا كتابُ الله وسنةُ رسوله والعملُ بهما. وإنّ مِن أولِ القرآن نزولاً سورة المزّمل، التي قال اللهُ فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم:(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) (المزمل:8)، (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) (الانسان:25)، ولو سألْنا القرآنَ الكريمَ كيف نذكر ومتى نذكر وكم نذكر؟ لسمعنا القرآن العظيم يوجهنا أن نذكر الله بقلوبنا هيبةً وإجلالاً وأن القـلب هو المضغة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسدُ كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي الـقلب" ، وفي الحديث: "إن القلوبَ لتصدأ كما يصدأ الحديد قيل: وما جلاؤها يا رسول الله؟ قال:كثرة تلاوة كتاب الله وكثرة الذكر لله عز وجل". ونستـقي من القرآن العظيم موضع هذا الـقلب في الإنسان، فيجيب بقوله تعالى:
(فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46). ونسأل القرآنَ كيف يكون الذكر بالـقلب؟ فيجيب: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف:205)، إذن فهو الذكر النفسي الذي ورد فيه: "خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي".
وورد في كنز العمال: "الذكر الذي لا تسمعه الحفظة يزيد على الذكر الذي تسمعه الحفظة سبعين ضعفاً"، ومن هذه الأدلة نستخلص أن الـقلب مختص بذكر الله حضوراً دائماً معه، حتى في سوقِه وعَملِه: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) (النور:37)، وهل من الإمكان أن يجمع الإنسان بلفظه البيع والشراء والذكر؟ يقيناً لا، إذن فالمفهوم أنه يبيع ويشتري بلسانه، وقلبُه حاضرٌ مع الله بمراقبة لا تغيب. وأما القلب الغافل عن الذكر فهو القلب المهدّد بالتهديد الشديد من الله بقوله: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (الزمر:22) ، وقوله تعالى:(وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا) (الكهف:28)، فالآيات تـثبت أن ذكر الله بالـقلب، وقد جعل القرآنُ الغافلَ عن الله أحطَّ مرتبةً من الأنعام بقوله: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:179). هذا وإن القرآن لم يذكر شيئاً من العبادات بالكثرة إلا ذكر الله بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) (الأحزاب:41)، ثم عرّف الذكر الكثير بقوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ) (آل عمران: 190،191)، وهل للإنسان غير هذه الحالات الثلاث إما قائماً أو قاعداً أو مضطجعاً ؟... فالذاكر إذن مع الله في كل أحواله الروحية، فجسده يعيش مع الخلق، وقلبه حاضر مع الخالق، وهذا لا يحصل إلاّ لأهل الذوق ولا يكون للعوام ولا للجهال ولا للمنتـقدين، ولقد عبّـرَتْ عن ذلك امرأةُ ذاقتْ تلكَ الحلاوة، وهي رابعة العدوية حيث قالت:
 
ولـقد جعلتـكَ في الفؤاد مُحَدثي           وأبحتُ جسمي من أرادَ جلوسي 
فالجـسمُ مني للجليـسِ مؤانـسٌ           وحبـيبُ قلبي في الفؤادِ أنيسي

وهناك فئة اعترضت على ذكر الـقلب، لأنهم جَهِلوه، وما سلكوا طريقَه، كرجلٍِ نظر إلى سيارة فخمة وطائرة كبيرة فانتـقدهما وانتـقد من يركبهما، ونسب إليهما النِّـسَبَ الخاطئة، ليزهِّـدَ الناسَ في ركوب السيارة والطائرة، والسبب أنه جهل منافعَهما وراحتهما وطيّهما للمسافات بدون تعب. ولا يقع في شباك هذه الفئة إلا محروم من كل خير.
 تـلك إجابات على عجل، ولا يؤخذ العلمُ من الكتاب فحسب، بل يؤخذ من عالِمٍ عارفٍ بالله مشافهةً، وعن طريق الصحبة والمجالسة ليستـقيمَ أمرهُ ويكونَ في حماية من التحريفِ والزيغِ.