وصيتي لأولادي وأهلي وأقاربي -2-

 


 

يا بنيّ: أديت حقكم في الـتأديب فأدّوا إليّ حقي في امتـثال الأمر والطاعة.

وإياكم يا ولدي أن يستبدَّ أحد منكم برأيه فإنه الهوى المهلِك، وإياكم ومعاداة الرجال فإنكم لا تعدموا مكرَ حليم أو معاداة لئيم.

يا أولادي: أوصيكم أن تأتمّوا بالعلماء، وتؤاخوا الفضلاء، وتـقتدوا بأصحاب المروءة المقتدين بالسنة، وابتعدوا عن أهل الدنيا المضيعين للسنة، واجتهدوا بظهور الكمال على هيئتكم، وأن تكون التـقوى ملء فؤادكم، وعليكم بائتلاف الناس ومواساتهم، وصلة من يستحق الصلة منكم.

يا بني: حاسبوا أنفسكم كل ليلة متى أويتم إلى فراشكم، وفكروا بما اكتسبتم في يومكم من حسنة فتـشكروا الله عليها، أو سيئة فتستغفروا الله منها وتـقلعوا عنها.

وإياكم أن تسعوا في نفع نفوسكم بضرر غيركم فيغضب عليكم الخالق والخلق، لأن ذلك معصية تخالف أمر الدين والإسلام، و" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " (1).

واعلموا  أنه () (2).

 يا أولادي: إنّ مَن نظرَ في عيبِ غيره استعظمَ نفْسَهُ، ومن سلَّ سيف البغض قُتِل به، ومن حفر حفرة لغيره وقع فيها، ومن تعرض لهتك مسلم هتك الله عورته، ومن أعجب برأيه ضلّ، ومن تكبر على الناس ذلّ، ومن شاور لم يندم، ومن جالس العلماء وقّر، ومن جالس السفهاء حُـقّر، ومن طاوع نفسه في شهواتها فضحته، ومن لم يعرف مقادير الرجال أُلحِق بالبهائم.

يا بُني: إذا جاورك قوم فغض نظرك عن محارمهم، ومن أساء إليك فأحسِن إليه، وازرع الجميل تحصد الجزيل، واصحب الأشراف واجتـنب الأطراف، فمن صاحب الأشراف رفعوه; وإن ظُلم نصروه وإن تكلم سمعوه.

يا بني: اغتـنموا أيام الصحة قبل السقم، والشبيبة قبل الهرم، وبادروا بالتوبة قبل الندم، واستعينوا على بعد المسافة بطول المخافة، وأحذركم من الدنيا والاغترار بزخارفها، وأوصيكم بالاتباع والاقتداء فإن من كان قبلكم خَلَفُوا الأنبياء باتباع آثارهم، فإن تمسكتم بهديهم، واقتديتم بسنتهم لن تضلوا، وإنّ الرسول الأعظم قد خلّف فينا كتاب الله وسنته وأهل بيته; أهل العلم ، فبهم اقتدوا، ولهم جالسوا، ولا تزولوا عنهم فتـفرقوا، ولا تـنحرفوا عنهم فتمزقوا، والزموهم تهتدوا وترشدوا.

أولادي وأهلي وأقاربي: إذا نُعيتُ إليكم وبلغكم خبرُ وفاتي فاجتمعوا لتـشييعي وقوموا بواجب توديعي. واحذروا أن تسمحوا لنادبة أو تسمعوا لصاخبة أو ترضوا بأية لاطمة.

واعلموا أنّ الحزن في القلوب لا بلطم الخدود ولا بشق الجيوب. فإني أنهاكم وأشهد الله على نهيكم أن تأتوا شيئاً من هذه المعايب لئلا تحملوا أوزاركم على ظهوركم بهذه المثالب.

فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما فُجع بولده وفلذة كبده قال: "إنّ العين لتدمع وإنّ القلب ليحزن وإنّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون وإنّا لله  وإنّا إليه راجعون" لذلك أوصي أن لا يخرج وراء نعشي قريبة ولا جارة ولا نسيبة ولا أن يخرجن إلى القبر عند الدفن ولا مانع في غير هذا الوقت.

وأما أنتم; فالزموا الشرع وحدوده في التـشييع ولا تـقربوا شيئاً من تلك المظاهر; فإني بريء ممن صدح أو ردح أو مدح أو جهر بالصوت أو اتخذ التـشييع مجالاً للمظهر أو الثـناء.

واعملوا بالسنة في ذلك بأن يخرج المشيعون على وضوء، تعلوهم الهـيبة والجلال، ويغشاهم الخوف والوقار، وكلهم يقرؤون القرآن سراً، أو يذكرون ويسبحون همساً، ومن خالف فإثمه عند ربه. وجاهدوا بإزالة تلك السيئات بجميع قوتكم لتطهروا بيت العلم من مثل هذا الخزي والإثم، لأنه إذا كانت بيوت العلماء ميداناً لهذا البلاء فكيف يرجى لنا الصلاح والفلاح؟!

فإذا خرجتم بي من الدار فليمش أمام نعشي من وجد من العلماء، علَّهم أن يكونوا لي شفعاء، وليمش بقية الناس خلف نعشي فلعل الله أن يشفعني فيمن شيّعني.

فإذا بلغتم المسجد للصلاة عليَّ فليصل عليَّ ولدي وله الحق أن يوكل من رأى من الصالحين، ثم بعد الصلاة إياكم والخطب والمدح والثـناء فإني والله لأرجو أن ألقى ربي لا لي ولا عليَّ، ولا مانع من قراءة وصيتي إن شاء ولدي.

ثم اخرجوا إلى مثواي الأخير بمثل ما خرجتم بي من بيتي فإذا بلغتم القبر فلا يجلس أحد قبل أن آوي لقبري. وإياكم والجلوس على القبور، فإذا دليتموني في قبري فاقرؤوا أحد عشر مرة سورة الإخلاص، ثم ليقم بتـلقيني أحد العلماء الصالحين، وبعدها ليجتمع الأحباب على قبري فيقرؤوا بصوت واحد سورة يـس والواقعة وتبارك وقصار السور ولا تـنسوني من التهليلة المباركة.

فإني لأرجو الله أن يغفر لمن شارك وقرأ وسمع.

ثم بعد ذلك إن أردتم زيارة المقابر فلتكن للعظة والتذكرة بأنكم بعد الحياة لميتون، وبعد الموت ستـنشرون، وبين يدي الله ستـقفون، وعلى أعمالكم محاسبون.

واجتـنبوا السرف في النفقات ولا تبسطوا أيديكم بالصدقات المخالفة للشريعة،

 فمن سلك سبيل الطاعات يحمد منه السُّرى، ( )(3)

 ومن ضلّ عن  الصراط السوي ولم يتبين له الرشد من الغي فبشره بالعذاب الأليم، ومن عمل بالأمر واجتـنب النهي فأرجو الله أن يكون من الفائزين،
 (      )(4).

ويا ولدي: اعلموا أنّ هذه الحياة الدنيا ليست بدار بقاء، وإن أنا لم أرحل عنها الآن فسأرحل عنها قريباً، فلا تحزنوا فالحزن ليس من شأن الرجال. وأنا أموت اليوم مرتاح البال هادئ الضمير لأني ربيتكم وهذبت أخلاقكم وأنا واثـق بهمتكم وإيمانكم ومحبتكم أن تعيشوا شرفاء مكرمين نشيطين في محبة بعضكم وتساعد أيديكم وتآلف قلوبكم وجمع كلمتكم، وأن يبقى رباطكم كما هو في حياتي، وزوروني في قبري أستأنس بكم وتستأنسوا بي وتكتبوا عند الله أبراراً.

وأستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم عملكم.

وأستودعكم عند من لا تخيب ودائعه، ولـقائي بمن استـقام منكم على حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم إن شاء الله بمعية الصديقين والشهداء والصالحين.

___________________________________________________________ 

(1) أخرجه الإمام أحمد في (مسنده: 2: 379) عن أبي هريرة، والإمام البخاري عن ابن عمرو، والإمام مسلم عن جابر، ورواه الترمذي والحاكم وابن حبان عن أبي هريرة، وأبو داود عن ابن عمرو، والنسائي عن أبي هريرة وابن عمرو، والطبراني عن واثـلة، وقال السيوطي: حديث صحيح. انظر (الجامع الصغير،2 : 576، رقم : 9206 و 6207 و 6208، السيوطي، طبع دار خدمات القرآن).

 (2)  (م: 99: الزلزلة- الآيتان: 7 و 8).

 (3)  ( ك: 53: النجم-الآية:39).

 (4)  (م:2: البقرة-الآية: 181).

الصفحة 1       الصفحة 2